علي بن عبدالعزيز الراجحي
عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل
قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل
دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه "
متفق عليه( )
التعريف بالراوي :
هو
الصحابي الجليل ، سيد الحفاظ الأثبات ، أبو هريرة رضي الله عنه ، اختلف في
اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة ، أرجحها أنه : عبد الرحمن بن صخر الدوسي ،
أسلم عام خيبر ، أول سنة سبع . قال الذهبي : ( حمل عن النبي صلى الله عليه
وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، لم يلحق في كثرته )
ولم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه ، لملازمته له ، فقد بلغت مروياته 5374 حديثاً .
روى
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إنكم تقولون : إن أبا هريرة يكثر
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : ما بال المهاجرين
والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة ؟
وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم لصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا . وكان
يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصفة
أعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه : إنه
لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول ،
فبسطت نمرة علي ، حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها
إلى صدري ، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء( )
توفي أبو هريرة رضي الله عنه سنة سبع وخمسين للهجرة( )
المباحث اللغوية :
سبعة
: هذا العدد لا مفهوم له ، فقد وردت روايات أخرى تبين أن هناك من يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، غير هؤلاء المذكورين في الحديث .
يظلهم الله في ظله : المراد به : ظل العرش ، كما في رواية أخرى : " في ظل عرشه " .
يوم لا ظل إلا ظله : المراد : يوم القيامة .
إمام عدل : الإمام لغة : هو كل من ائتم به من رئيس وغيره .
واصطلاحاً
: كل من وكل إليه نظر في شيء من مصالح المسلمين من الولاة والقضاة
والوزراء وغيرهم والعدل ، ضد الجور ، والعادل من حكم بالحق .
شاب نشأ
في عبادة الله : خص الشاب بالذكر ، لأنه مظنة غلبة الهوى والشهوة والطيش ،
فكان ملازمته للعبادة مع وجود الصوارف أرفع درجة من ملازمة غيره لها .
اجتمعا
عليه : أي : على الحب في الله ، وتفرقا عليه كذلك ، والمراد : أن الذي جمع
بينهما المحبة في الله ، ولم يقطعها عارض دنيوي ، سواء اجتمعا حقيقة أم لا
، فالرابط بينهما المحبة في الله حتى الموت .
ورجل دعته امرأة ذات
منصب وجمال : دعته ، أي : طلبته ، ومنصب : المراد به: الأصل والشر والمكانة
، ويدخل فيه الحسب ، والمراد أنها دعته إلى الفاحشة .
ورجل تصدق بصدقة
: الصدقة : ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة ، سواء كان فرض
كالزكاة المفروضة ، أو تطوعاً ، ثم غلب استعمال الصدقة على صدقة التطوع .
فأخفاها
حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه : المراد بذلك المبالغة في إخفاء الصدقة
بحيث إن شماله قربها من يمينه لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين ،
لشدة الخفاء .
خالياً : من الخلو ، بحيث لا يكون عنده أحد ، وإنما خص بالذكر لأنه في هذه الحالة أبعد عن الريا
ففاضت عيناه : من الدموع ، خشية لله عز وجل .
الأحكام والتوجيهات :
1-
من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الأعمال ينال صاحبها جزاء خاصاً ،
لتميزه بهذا العمل ، وهذا فيه حث وترغيب في أمور كثيرة من الخير
وهنا
ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء هؤلاء السبعة الذين تميز كل منهم بميزة
خاصة ، وذكر هذا الفضل في أحاديث أخرى لغير هؤلاء السبعة ، مثل : الغازي
في سبيل الله ، والذي ينظر المعسر ، ومعين الغارم ، وكثير الخطى إلى
المساجد ، وغيرهم ، مما جعل أهل العلم يقولون أن العدد المذكور لا مفهوم له
، فلا يراد به الحصر .
وقد تتبع الحافظ ابن حجر رحمه الله تلك الخصال ، وأفرادها في كتاب اسمه: ( معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال ) .
2- ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له أيضاً ، إذ تدخل النساء معهم فيما ذكر إلا في موضعين ، هما :
أ-
الولاية العظمى والقضاء ، فالمرأة لا تلي المسلمين ولاية عامة ، ولا تكون
قاضية ، لكن ينطبق عليها العدل فيما تصح به ولايتها ، كمديرة المدرسة ،
ونحوها .
ب- ملازمة المسجد ، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسد . وباقي الخصال تدخل فيها المرأة .
3-
لقد عظم الشرع أمر العدل ، سواء كان في الولاية العظمى ، أو فيما دونها من
الولايات ، حتى في أمور الإنسان الأسرية ، كالعدل بين الزوجات ، والعدل
بين الأولاد ، وغير ذلك ، قال تعالى : ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب
وأمرت لأعدل بينكم )( ) وقال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الله واعدلوا
بين أولادكم "( ) وقال تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )( ) ، وقال
صلى الله عليه وسلم " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين
الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا
)( )
وذكر الإمام العادل في أول الخصال لعظم أمر الإمامة والعدل فيها .
4-
مرحلة الشباب من أهم مراحل العمر ، تقوى فيها العزيمة ، وتكثر الآراء ،
وتمتلئ بالحيوية والنشاط ، ولهذا من سلك منهج الله في شبابه ، وغالب هواه
ونزواته ، استحق تلك الدرجة العالية المذكورة في الحديث ، وما يعين الشباب
على تحقيق هذه الخصلة :
أ- طلب العلم والانشغال به .
ب- تعويد
النفس على استغلال الوقت بشتى الوسائل ، كبر الوالدين ، وقضاء حوائجهما ،
وقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرة السلف الصالح .
ج- مصادقة الصالحين المستقيمين على منهج الله تعالى .
د- محاولة استغلال فرصة الشباب بحفظ كتاب الله تعالى أو شيء منه .
5-
المساجد بيوت الله ، ومكان أداء العبادة المفروضة ، وأنواع من العبادات
المستحبة ، وميدان العلم والتعلم ، والمذاكرة والمناصحة ، وكلها أعمال
جليلة، يستحق الملازم لها ذلك الثواب العظيم ، بالإضافة إلى أن المتعلق
بالمسجد بعيد عن رؤية المنكرات ، وقريب من الله سبحانه وتعالى ، فيصفو قلبه
، وتنجلي همومه وأكداره ، ويعيش في روضة من رياض الجنة ، وبذلك تكفر
سيئاته ، وتكثر حسناته
والتعلق بالمساجد لا يعني الجلوس فيها جميع
الأوقات ، بل وقت دون وقت ، لكن إذا خرج منها فإنه يحب الرجوع إليها ، وإذا
جلس فيها أنس واطمأن وارتاحت نفسه .
6-
العلاقات بين الناس قائمة على أسس متعددة من مصالح مادية ، وقرابة ، وشراكة
مالية ، وتجانس خلقي ، ونحوها ، والإسلام يشجع قوة الترابط بين المسلمين
على أساس من المحبة في الله ، والقاسم المشترك فيها طاعة الله تعالى ،
ونصوص الكتاب والسنة تركز على هذا الجانب ، يقول تعالى : (إنما المؤمنون
إخوة )( ) ، ويقول تعالى ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )( ) ،
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أوثق عري الإيمان : الحب في الله .
والبغض في الله )( )
7- للنفس البشرية
رغبات وشهوات ، وجه الإسلام لإشباعها بمنهج ثابت معلوم ، والشيطان حريص على
أن يميل الإنسان مع شهواته ويتبعها حتى يشاركه في الغي والضلال ، ومما
يميل إليه الرجل المرأة ، فإن اتصفت بصفات الجمال والمنصب والحسب والشرف ،
كان إليها أكثر ميلاً ، فإذا ما كانت الدعوة موجهة منها ، مع الأمن من
الخوف تساقت إليها نفس الرجل أكثر ، وهنا يظهر داعي الإيمان عند المؤمن
الصادق ، فيقول : إني أخاف الله ، فإذا قالها بلسان وصدقها عمله ، نال
جزاءه العظيم المذكور في الحديث ، وهكذا يريد الإسلام بأن يكون الرجال
والنساء أعفاء شرفاء ، بعيدين عن الفواحش والآثام والمحرمات ، يراقبون الله
سراً وعلانية .
قال الشاعر :
وإذا خلوت ريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
8-
الصدقة مبدأ عظيم ، وفضلها جسيم ، وثمارها يانعة ، في الدنيا والآخرة ، لا
تحصى النصوص في بيان فضلها وثوابها ، ومضاعفة الأجر لصاحبها ، وقربه من
الجنةورضا الله ، وحجبه عن النار ، يقول الله تعالى : ( مثل الذين ينفقون
أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله
يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم )( ).
والصدقة فاضلة سراً وعلانية ،
يقول تعالى : ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو
خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير )( ).
والأفضل في إظهار الصدقة أو إخفائها يختلف باختلاف الأحوال ، فإن كان في إظهارها مصلحة فهو أفضل ، وإلا فإخفاؤها أفضل فرضاً ونفلاً.
9-
ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال ، ومن أيسرها ، فقيه ثناء على الله ،
وتمجيد ، وحمد ، وشكر له بما هو أهله ، واعتراف بالتقصير تجاهه ، وإذا كان
هذا الثناء والذكر بعيداً عن أعين الناس ، وأثر في صاحبه خوفاً وخشية دمعت
منها عيناه ، أثابه الله تعالى على هذا الذكر الصادق الخالص بأن يظله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله .
10- مما أفاده
الحديث : إخلاص العبادة لله جل وعلا ، فالأمر الجامع بين العمال المذكورة
في الحديث إخلاصها لله سبحانه وتعالى ، وتجريدها عن المقاصد الأخرى .
11-
ومن الأمور الجامعة بين هذه الصفات أيضاً : الصبر والتحمل ، ولا شك أن
طاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره تحتاج إلى صبر ومصابرة ، لأن فيها معارضة
للشيطان والنفس والهوى ، فإذا جاهدهم وانتصر عليهم استحق الجزاء الأوفى.
12-
مما يرشدنا إليه الحديث أيضاً : أن يحرص المؤمن على أن يوجد له عملاً
خفياً لا يعلم عنه أحد من الناس ، ليكون أبعد عن الرياء ، وليتعود الإخلاص،
فإن هذا مما يزيد ممارسته لتلك الأعمال الجليلة .