نشأة النظرية الاجتماعية الحديثة
من الأمور الهامة التى ينبغي أن نشير إليها ، نشأة النظرية الاجتماعية ، فإذا نظرنا إلى التفكير الاجتماعي بصفة عامة ، نجد أنه ليس وليدا فى العصر الحديث فقط ؛ بل هو أسبق من ذلك بكثير ، حتى إنه من الممكن أن يقال : أنه لم يكن هناك عصر من العصور ، ولا أمة من الأمم ، إلا وكان فيها من المفكرين الاجتماعيين الذين أدلوا بأفكارهم من أجل إصلاح المجتمع . أما ما يدعيه بعض المفكرين من أن الفكر الاجتماعي نشأ فى العصر الحديث فى المجتمع الغربي ، منكرين بذلك إسهام الشرق القديم والإسلامي فى هذا الفكر ، فإن هذا الزعم ليس بصحيح ؛ لأن المنصفين من المفكرين أثبتوا أن الشرق القديم ، مثل : مصر ( الفرعونية ) والهند ، والصين ، كان فيه من المفكرين الاجتماعيين ، الذين تركوا من الوصايا والتوجيهات ، فى الاجتماع والتربية والسياسة ، تعد من أهم مقومات الحياة الاجتماعية . كذلك أيضا أثبتوا أن المسلمين فى مختلف العصور ، كانت لهم إسهامات بارزة فى التفكير الاجتماعي مثل : الفارابي وابن خلدون ورفاعة الطهطاوي وغيرهم([1]) . لكن ، كل ما قام به هؤلاء الحكماء والمشرعون من الأمم الشرقية القديمة ، من الدراسات والإصلاحات الاجتماعية ، وكذلك أيضا ما قام به المفكرون المسلمون قبل ابن خلدون من هذه الدراسات والإصلاحات ، لم تتفق أغراضها ومناهجها مع ما يسمى الآن بعلم الاجتماع ، لأنه فى تلك العهود لم يفكر أحد فى إنشاء هذا العلم ، أو وضع أسس له " ولعل السبب فى ذلك يرجع إلى أن دراسة الظواهر الاجتماعية على الطريقة التى يسير عليها علم الاجتماع ، لا تتاح إلا لمن ثبتت لديه أن هذه الظواهر لا تسير حسب الأهواء والمصادفات ، ولا حسب ما يريده الأفراد ، وإنما تسير فى نشأتها وتطورها ومختلف أحوالها ، حسب قوانين ثابتة مطردة … وهذه الحقيقة لم يصل إليها تفكير أحد من قبل ابن خلدون " ([2]) .
ـ ابن خلدون وتأسيسه لعلم الاجتماع :
لقد حدد ابن خلدون إطار هذا العلم فى كتابة الشهير بالمقدمة التى تحتوي على شرح مفهوم هذا العلم وتحديد إطاره ، وقد ساعد ابن خلدون على وضع أسس هذا العلم أنه سلك طريقا مبتكرا فى دراسات يختلف عن سابقيه . يقول عنه الأستاذ عبده الحلو : " إننا لا نجد صنوا لابن خلدون حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، مع العلم أن النظريات الاجتماعية التى نشأت فى تلك الحقبة كثيرة جدا ومتباينة كل التباين ، وقد قضى العلماء شطرا كبيرا من هذا القرن فى جدال حول طبيعة الحادثة الاجتماعية ، وكيفية دراستها فانقسموا بين النظريات الآلية والعضوية والبيولوجية والتطورية والنفسية والاجتماعية ، ولكن العلماء المعاصرين أهملوا بوجه عام هذه النظريات الضيقة وصاروا أميل إلى اعتبارها نظريات جزئية يمكن أن يتم بعضها بعضا ، وربما كانت النظرية الاجتماعية فى علم الاجتماع التى تزعمها إميل دور كايم (1858ـ1917) هي التى امتصت التيارات الأخرى
وغلبت عليها . ولسنا نغالي إذا قلنا أن مقدمة ابن خلدون احتوت على بذور هامة لمختلف النظريات مع غلبة النظرة الاجتماعية عليها ، فيكون ابن خلدون من حيث المنهج الذي أتبعه دراسة الحادثات الاجتماعية ، لا من حيث النتائج التى وصل إليها ، أقرب إلى علم الاجتماع المعاصر ، من علماء القرن التاسع عشر أنفسهم " ([3]) .
أما بالنسبة للتفكير الاجتماعي والنظرية الاجتماعية فى العصر الحديث ، فإنها نشأت فى مجتمع وقع تحت الظلم والطغيان قرونا عديدة ، من قبل الكنيسة التى كانت ترى أن الكتاب المقدس يحتوى على كل الحقائق ، وأنها وحدها هى التى تعرف تأويل آياته ، وبذلك تكون هي مصدر كل الحقائق وليس هناك حقائق أخرى ، ومن ادعى غير ذلك يعتبر فى نظر الكنيسة مارقا من الدين ، وتقوم الكنيسة بتسليمه إلى محاكم التفتيش ، التى تقوم بإعدام المارقين حرقا وهم أحياء . وعند ما زاد الضغط عن حده انقلب إلى ضده ، فبدأ الغربيون يزيحون من على كواهلهم هذا الكابوس الذي ران عليها دهرا طويلا ، ويتحررون من قيود هاتين السلطتين منادين بالإصلاح الديني ، ونبذ كل الخرافات والأوهام التى يقول بها رجال الكنيسة ، والأخذ بوسائل التقدم العلمي . وفيما يلي نبذة مختصرة عن أحوال المجتمع الأوربي منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث ، وهو العصر الذي نشأت فيه النظرية الاجتماعية الحديثة . ([1]) انظر فى ذلك علم الاجتماع من منظور إسلامي د / طلعت غنام ص39ـ 91/ ط 1987م / مطبعة الفجر الجديد . وانظر أيضا التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره د/ زيدان عبد الباقي ص160ـ176، 177ـ216، 283ـ 301/ ط 3 سنة 1981م / دار الغريب للطباعة . وانظر أيضا عن الفكر الاجتماعي فى الشرق القديم كتاب : الجانب الفلسفي عند الأمتين الفارسية والصينية د/ على معبد فرغلي / ط1 سنة 1984م / دار الكتاب الجامعي . وانظر أيضا أضواء على الفلسفة اليونانية د/ أحمد عبده حمودة الجمل ص3ـ54/ ط1 سنة 1986م / دار الطباعة المحمدية . ([2]) التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره د/ زيدان عبد الباقي ص180،181 . (])ابن خلدون : هو عبد الرحمن أبو زيد ولى الدين بن خلدون الحضرمي . ولد فى تونس فى غرة رمضان سنة 732هـ (27مايو 1332م) ، وهو أول مؤسس لعلم الاجتماع الذي كان يطلق عليه ( علم العمران ) أو ( الاجتماع الإنساني ) . ([3]) حولية كلية أصول الدين عدد 16 سنة 1998م / ص229 من بحث للدكتور / محمد عبد التواب السيد تحت عنوان : ابن خلدون رائد علم الاجتماع وفلسفة التاريخ .